يعد متن الجزرية من أعظم المتون في علم التجويد، إذ جمع فيه الإمام ابن الجزري القواعد الأساسية لضبط تلاوة القرآن الكريم أداءً صحيحًا موافقًا لما أُثر عن القراء.
ومن بين الأبواب التي تناولها هذا المتن الدقيق باب الحرفان الملتقيان، وهو من الأبواب المهمة التي تُعنى ببيان كيفية النطق حين يلتقي حرفان في الكلمة الواحدة أو عند التقاء كلمتين.
فهم هذا الباب يساعد القارئ على إدراك الفروق الدقيقة في مخارج الحروف وصفاتها، وتجنب اللحن عند التلاوة، تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾.
أحكام التقاء الحرفين في متن الجزرية
نحن نعلم أن لغة العرب تتألف من 29 حرقًا هجائيًا منها حرف الألف، والألف لا تتصدر الكلام ولا بد أن يسبقها حرف؛ وهي لا تكون إلا ساكنة ولا يكون الحرف الذي قبلها إلا مفتوحا: مثال: (قال؛ عَادَ)؛ لذلك نستثني الألف من الكلام عن الحرفين الملتقيين أو المتجاورين؛ فيبقى لدينا 28 حرقًا؛ فالاحتمالات الفعلية في التقاء أي حرفين في لغة العرب أربعة احتمالات:
قاعدة لغوية
مثال
«وَلَيكْتُب بَّيْنَكُم» فلو فَلَقَلْنَا الباء لعدنا إلى مخرج الباء مرتين؛ فمن الأسهل أن نذهب إلى مخرج الباء مرة واحدة؛ فنطبق الشفتين على باء ساكنة من غير قلقلة ونباعدهما عن باء متحركة؛ وهذا شيء يفعله الإنسان بفطرته.
مثال
عدول عن الإظهار إلى الإخفاء: «أَنفُسَهُم» نخفي النون الساكنة عند حرف الفاء.
مثال
عدول عن الإظهار إلى القلب: «مِن بَعْدِ» تقرأ (ممبعد). وذلك أسهل في النطق.
الإدغام
لغة
لغة: الإدخال.
تقول العرب: أدغمت اللّجام في فم الفرس، أي أدخلته في فيها.
وتقول أيضًا: أدغمت السيف في غمده.
اصطلاحا
اصطلاحا: إيصال حرف ساكن بحرف متحرك بحيث يصيران حرفاً واحدًا مشددًا من جنس الثاني يرتفع عنه المخرج ارتفاعةً واحدة؛ نحو: (وليكُتب بَيْنَكُم)، (همَّت طائِفَتان).
عملًا بقاعدة: كل عدول عن الإظهار إلى غيره [إدغام؛ إخفاء؛ قلب...] هو عدول إلى الأسهل.
أسباب الإدغام
للإدغام ثلاثة أسباب: (التماثل أو التجانس أو التقارب)؛ أما التباعد فهو موجب للإظهار.
شروط إدغام الحروف
- أن يكون الحرف الأول ساكنًا فإذا كان متحركًا فلا يمكن دمجهما، مثال: «يَعْلَمُ ما» لأن الضمة واو قصيرة حالت بين الميمين؛ فإذا أردنا دمج الميمين فلا بد أن ننزع من الميم الأولى ضمتها فتسكن فتصبح «يَعْلَمْ ما» وهذا ما تفعله بعض القبائل العربية ويسم الإدغام الكبير؛ وهذا ليس من علم التجويد؛ بل من علم القراءات؛ رواه لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو عمرو بن العلاء البصري برواية السوسي من طريق الشاطبية.
- أن لا يكون الحرف الأول من المتماثلين «حرف مد» نحو: «قَالواً وَهُمْ»؛ «في يَوْمِ».
أمَّا الإدغام في نحو «آنَّقَوْاً وَءَامَنُوأ» فقد جاز، لأن الواو الأولى ليست مدية بل حرف لين.
- أن لا يكون الحرف الأول من المتماثلين هاء سكت وذلك في: «مَالِيَه هَلَكَ» [الحاقة: 28] حيث إن السكت يمنع الإدغام.
- ويجوز لحفص في «مَالِيَه هَلَكَ» وجهان:
1- الإدغام مع عدم السكت.
2- الإظهار حال السكت.
أقسام الإدغام
يقسم الإدغام عند القرّاء إلى قسمين: صغير وكبير وفيما يلي بيانهما:
1-الإدغام الصغير
أن يكون الحرف الأول من الحرفين الملتقيين: (المتماثلين أو المتجانسين أو المتقاربين) ساكنًا والثاني متحركا، مثال: «وَلْيَكُْتُب بَيْنَكُم»؛ وسُمّي صغيرًا لأننا ندغمه مباشرة.
2- الإدغام الكبير
أن يكون الحرف الأول من الحرفين الملتقيين: (المتماثلين أو المتجانسين أو المتقاربين) متحركا والثاني كذلك. مثال: «الرّحِيم مَلِكِ»، «لآ أَبْرَحُ حَتَّى»؛ ولا بد من تجريد الأول من حركته؛ أي نُسَكِّنه ثم ندغمه؛ وسمي كبيرًا أيضًا لأننا تُسَكِّنُ ونقلب (إذا كان الحرف الأول ليس من جنس الثاني) ثم نُدغم.
مثال
- (وَإذَا النُّفوس زُوِّجَتْ)، تُقرأ (وإذا النفوزُوجت). ولحفص فيها الإظهار فقط.
- أما إمام الإدغام الكبير فهو الراوي السوسي عن القارئ أبي عمرو البصري فقد توسّع في هذا الباب كثيرًا.
أقسام الإدغام الصغير
ويقسم الإدغام الصغير من حيث الوصف إلى:
- الإدغام الكامل.
- الإدغام الناقص.
حقيقة الإدغام الكامل
وحقيقة الإدغام الكامل: أن تذهب ذات الحرف المدعٌم وصفاته؛ بحيث يصيران حرفا واحدًا مشددًا تشديدًا كاملًا.
علامة الإدغام الكامل
علامة الإدغام الكامل في ضبط المصحف هي:
تجريد الحرف الأول من السكون مع تشديد الحرف التالي؛ نحو:
«يُدْرككُّم»، «عَصَوا وَّكَانُوا»؛ «ارْكَب مَّعَنا»، «وقُل رَّب»، «أَلَمْ نَخْلُقكُّم»، «السَّماءُ».
الإدغام الناقص
أما الإدغام الناقص: فهو أن تذهب ذات الحرف المدعّم وتبقى صفته؛ وسمي ناقصًا لأنه غير مستكمل التشديد بسبب بقاء صفة المدْغم.
علامة الادغام الناقص
علامة الادغام الناقص في ضبط المصحف هي :
تجريد الحرف الأول من السكون مع عدم تشديد الحرف التالي؛ نحو:
«أَحطتُ»، «بَسَطتَ»، «فَرَّطتُم»، «فَرَّطتُ»، «مَن يَعْمَلْ »، «من وَلِيٍّ».
ولم يقع الإدغام الناقص إلا في:
1- النون الساكنة أو التنوين في الياء والواو؛ حيث بقيت صفة المدغم وهي الغنة؛ نحو:
«مَن يَعْمَلْ »، «من وَلِيٍّ».
2- الطاء في التاء، حيث بقيت صفات الطاء عدا القلقلة؛ نحو:
«أَحطتُ»، «بَسَطتَ».
3 أسباب للإدغام
ذكرنا سابقًا أن من أسباب الإدغام أن يكون الحرفان الملتقيان:
متماثلين أو متجانسين أو متقاربين.
أولا: إدغام الحرفين المتماثلين
وهما الحرفان المتفقان في المخرج وفي جميع الصفات.
فإذا التقى حرفان متماثلان، شرط: أن يكون الأول ساكنًا والثاني متحركّا (وأن لا يكون الحرف الأول حرف مد أو هاء سكت).
فحكمهما: وجوب الإدغام عند جميع القراء.
-> فالمد لا يدغم في غيره؛ حتى لا يذهب الإدغام بالمد. ولم يروها أحد من القرّاء مدغمة.
ثانيًا: إدغام الحرفين المتجانسين
وهما الحرفان المتفقان في المخرج والمختلفان في بعض الصفات.
وهذه العبارة ذكرها الشيخ عبد العزيز عيون السود؛ رحمه الله؛ فقد كان المصنفون يقولون فإذا التقى حرفان متجانسان من الصور الآتية؛ والأول منهما ساكن.
فحكمهما: وجوب الإدغام (حسب الرواية) نحو:
أ- المتفق عليه من إدغام الحرفين المتجانسين
هذه الحالة الخامسة متفق عليها عند جميع القراء وهي (إدغام متجانسين ناقص)؛ لأن الحرف القوي لا يدخل بكلّه في الحرف الضعيف؛ فكانت العرب تُدغم الطاء الساكنة في التاء، مع إبقاء صفة الإطباق منها، ويكون ذلك بأن يطبق المتكلم لسانه على طاء غير مقلقلة؛ ثم يجافيه عن تاء متحركة؛ وقد مرت معنا في قول ابن الجزري:
وَبينِ الإطْباقَ مِنْ أحَطتُ مَعْ بَسَطتَ وَالخُلْفُ بِنَخْلُقكُّم وَقَعْ
ب- المختلف فيه من إدغام الحرفين المتجانسين
ولحفص من طريق الشاطبية فيه الإدغام فقط.
أما من طريق طيبة النشر فلحفص فيه الإظهار والإدغام.
ولحفص من طريق الشاطبية فيه الإدغام فقط.
أما من طريق طيبة النشر فلحفص فيه الإظهار والإدغام.
ثالثًا: إدغام الحرفين المتقاربين
وهما الحرفان المتقاربان في المخرج والصفات ؛ نحو:
«نَخْلُقكُّم»، «فَقَدْ ضَلَّ»، «قُل رَّب».
أ- المتفق عليه من إدغام الحرفين المتقاربين
1. اللام في الراء
أما على مذهب الفرّاء فهو من الإدغام الواجب في المتجانسين.
2. القاف في الكاف
وذهب مكي بن أبي طالب القيسي وأبو بكر بن مهران إلى الإدغام الناقص فيه؛ وذلك وهي على رواية حفص من طريقي الشاطبية والطيبة بالإدغام الكامل. وعلامته تجريد القاف من السكون مع تشديد الكاف.
وقد تقدم الكلام عنها عند قول ابن الجزري: (والخلف بنخلقكُّم وقع).
3. اللام الشمسية في 13 حرقًا
3. اللام الشمسية في 13 حرقًا؛ والحرف الرابع عشر هو اللام: فإدغام اللام الشمسية في اللام التي بعدها من قبيل المتماثلين، وسيأتي الكلام عنها قريبًا.
4. النون الساكنة والتنوين في حروف (لَمْ يَرو)ِ
4. النون الساكنة والتنوين في حروف (لَمْ يَرو)ِ هي نفسها حروف (يرملون) من غير النون لأن إدغام النون في النون هو من قبيل المتماثلين؛ وسيأتي بيانها عند الكلام على أحكام النون الساكنة والتنوين.
ب- المختلف فيه من إدغام الحرفين المتقاربين
يُبحثُ عنه في علم القراءات؛ ولا علاقة لنا به في علم التجويد لأنه داخل في خلاف القرّاء وذلك نحو:
- إدغام الدال في الضاد؛ «ِفَقَدْ ضَلَّ»؛ فمثلًا ورش يدغمها فيقول: (فَفَضَّلَّ).
- والتاء في الثاء؛ نحو (ٍكُذَّبَتْ ثَمُودُ)؛ الكسائي وحمزة وأبوعمرو وابن عامر يدغمونها فيقولون: (كَذَّبَثَّمود).
- وحفص عن عاصم يُظهر ذلك كله.
إذا التقى حرفان متماثلان أو متجانسان
قال الناظم؛ رحمه الله:
وَأوَّليْ مِثلٍ وجنْسٍ
وأوليّ أصلها "أوَّلَيْنْ" (حذفت النون من أجل الإضافة)؛ وهي مثنى أول. أي: الأول من المتماثلين مثلًا: الباء الأولى في «ولْيكْتُب بَّيْنَكُمْ»؛ والأول من المتجانسين مثلًا: الدال في «قَد تَّبَيَّنَ»؛ إذن أول المتماثلين (المدغم)؛ وأول المتجانسين (المدغم) صارا أولَّين.
إنْ سَكَنْ أَدْعُِمْ
إذا التقى حرفان متماثلان أو متجانسان (حسب الرواية) والأول ساكن والثاني متحرك، وجب الإدغام.
ملاحظة
ليس كل متجانسين مدغميّن؛ وإن كان الأول ساكنًا والثاني متحركًا؛ (لأن الشرط في إدغامهما الرواية)؛ مثال: «فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ» لا ندغم الباء في الواو، وإن كانا من مخرج واحد.
كَقُل رَّبِّ وبَل لَّا
(قُل رَّبِّ) إدغام (اللام في الراء) هنا في هذا البيت في حكم إدغام المتجانسين وهذا على مذهب الفرّاء.
أما على مذهب الخليل ابن أحمد الفراهيدي وابن الجزري فهو في حكم إدغام المتقاربين.
وذكر ابن الجزري هذا المثال عملًا بالرأي والرأي الآخر.
أما (بَل لاَّ) فهو: مثال لإدغام المتماثلين.
فائدة
الاختلاف بين العلماء في مخارج الحروف وعددها سببه تقارب المخارج.
حرف المد لا يُدغم في غيره
وَابِن
بمعنى أظهر: نبَّة ابن الجزري في هذا البيت على كلمات تُقرأ بالإظهار فقط وهي:
في يَوْمِ
(وما ماثلها فيما اجتمع فيه ياءان أولهما حرف مد).
أي: أبن: الياء المدية ولا تدغمها في الياء التي بعدها، لأن حرف المد لا يُدغم في غيره؛ حتى لا يذهب الإدغام بالمد. ولم يروها أحد من القرّاء مدغمة.
مَعْ قَالوا وَهُمْ
(وما ماثلها فيما اجتمع فيه واوان أولهما حرف مد).
وأبِن: الواو المدية ولا تدغمها في الواو التي بعدها وذلك لأن حرف المد لا يُدغم في غيره، حتى لا يذهب الإدغام بالمد. ولم يروها أحد من القراء مدغمة.
الخلاصة
إذا التقى متماثلان: الأول ساكن والثاني متحرك؛ وجب الإدغام، إلا أن يكون الأول من المتماثلين حرف مد. فإن كان الأول من المتماثلين حرف مد فلا إدغام؛ حفاظُا على المد من الزوال.
أما إذا كان الحرف الأول ليس حرف مد؛ بل: (حرف لين) مثال:
«اهْتَدَوا وَّإِن» فهنا الإدغام حاصل؛ فصارت (اهتَدَوا وَّإِن)؛ ونقيس على ذلك أيضًا الياء الليّنة وهذا لجميع القرّاء.
وَقُلْ نَعَمْ
متقاربان
اللام والنون من مخرجين متقاربين» وهذا رأي الخليل بن أحمد وابن الجزري.
متجانسان
اللام والنون من مخرج واحد؛ وهذا رأي الفرّاء.
ولم يدغمه أحد من القراء العشرة.
سبِّحْه
فالحاء من وسط الحلق؛ والهاء من أقصى الحلق أي أن الهاء أدخل من الحاء فلا يُدغمان.
لا تُزغْ قُلُوبَ
وذلك لأن الغين من أدنى الحلق؛ والقاف من أقصى اللسان مع ما يحاذيها من الحنك اللحمي؛ فلا بد من فصل الغين عن القاف وإظهارها، مثل: «فَاصْفَحْ عَنْهمْ» «أَفْرِغْ عَلَيْنَا».
فَالْتَقَم
أي: وأَبِنْ: اللام الساكنة ولا تدغمها في التاء المتحركة التي بعدها وهي أيضًا من المتقاربين وبالإظهار؛ لأن اللام هنا أصلية؛ لام الفعل؛ وليست لام التعريف؛ (فلام التعريف لا تدخل إلا على الأسماء).
لام التعريف
هي لام ساكنة زائدة عن بنية الكلمة؛ تجعلها العرب قبل الأسماء لتعريفها ويسبقها همزة وصل مفتوحة نحو: «الجِبَال»، «السَّمَاء».
وضع لام التعريف مع حروف الهجاء بعدها
اللام القمرية
اللام الشّمسيَّة
علامة إظهار لام التعريف القمرية في ضبط المصحف
وضع رأس الخاء من غير نقطة (ح) من كلمة (خفيف) فوق اللام؛ وهذا الاصطلاح اخترعه الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ رحمه الله. وخفيف يعني مُظهر غير مدغم وغير مشدّد.
علامة إدغام لام التعريف الشمسية في ضبط المصحف
تجريدها من السكون وتشديد الحرف التالي.
ختاما
يتضح لنا من خلال هذا الباب أن التقاء الحروف في القرآن الكريم ليس أمرًا عشوائيًا، بل تحكمه قواعد وضوابط دقيقة وضعها علماء التجويد في مقدمة الجزرية، لحماية اللسان من الخطأ في كتاب الله.
إن إتقان أحكام الحرفين الملتقيين يعين القارئ على تلاوة القرآن الكريم تلاوة سليمة، ويوصل المعنى المراد على الوجه الأكمل. ولذا، فإن الحرص على دراسة هذه القواعد والعمل بها من أعظم ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى، لأنها تعكس تعظيمه لكلام الله وحرصه على أدائه حق الأداء.
شرفنا بوضع تعليقك هنا، وعند أي استفسار سيتم الرد عليك بأسرع وقت ممكن بإذن الله.